الجمعة، 2 ديسمبر 2011

(المندوه) مقالة حمزة نمرة - جريدة التحرير





حمزة نمرة
فى ورشة ضيقة لا تتجاوز مساحتها الستة أمتار مربعة فى حى البساتين، تنطلق يد ذلك الشاب الأسمر الماهر لتصنع أحد أكثر الآلات الموسيقية أصالة.. آلة تختزن بين أوتارها سهول الأندلس وشمس العراق ونسيم الأناضول ولون النيل، أوتارها تحكى أساطير الأجداد وتسرّى عن قلوب العباد.. إنه العود.
وللعود شخصية ساحرة ومزاج عالٍ، فهو يصرّ على مصافحة يد مبدِعِه وأدواته البدائية البسيطة، لكنه يتعالى على الآلة الصناعية والماكينات الضخمة، ضاربا باقتصاديات السوق والإنتاج الكبير عرض الحائط.. وهذه هى دماغه! يعشق الشغل التفصيل ويكره الجاهز، يحب أن يراه الناس جميلا متزينا بالصدف والزخارف، ولا يتنازل أبدا عن السبسبة والنمنمة.
ظلت مصر المقصد الأول لمحبى العود لسنوات طويلة من القرن الماضى، ولكن فى السنوات العشر الأخيرة، قفز العود التركى إلى الصدارة، وتراجع العود المصرى مثقلا بهمومه وأعباء صناعته التى أُهمِلت وبات مهددا بالانقراض.
تناقص عدد الفنيين المهرة (صانعى العود) حتى أصبحوا لا يتجاوزون العشرة الآن، وتقاعست الدولة عن بذل أى مجهود يحمى هذا الفن، فلا هى أسهمت فى إنشاء مدارس لمثل هذه الحرف الفنية اليدوية، ولا هى ساعدت فى توفير حتى الخامات الأولية من الأخشاب والصدف والزخارف.
وكعادتنا التى لن نشتريها، فإننا لا نهتم كثيرا بمثل هذه الأشياء التى فى نظرنا المادى «عديمة الفائدة»، ففى مجتمع على وشك أن يُطلِّق الفن الراقى بالثلاثة، يجرى الناس جرى الوحوش وراء لقمة العيش فقط… وبين صراعنا الذى يبدو لى أنه أبدى مع المتسلطين على البلاد والعباد بفسادهم وظلمهم، وبين زحام الميكروباصات وانشغالنا بالإيرادات والمصروفات.. ينحسر الجمال والفن ويتوارى إلى الظل ليسكن كالحلم الجميل فى قلوب «المندوهين» مثلى ومثل ذلك الشاب، فنشعر وكأننا نسبح ضد تيارٍ جارفٍ من القبح والتشوّه.
مع كل ذلك، يبقى الشاب الأسمر بقلبٍ محبٍ لهذه الحرفة الفنية التى تعلمها -بإرادته- من والده، قابعا فى ورشته الضيقة، التى يولد فيها كل أسبوعين مولود جديد يحتضنه «مندوه» جديد وينطلق ليسبح به ضد التيار…
بقى يومان ويولد صديقى الجديد ذو الشخصية الساحرة والمزاج العالى.. فى انتظارك أيها العود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نرحب بكل محبى فن حمزه نمرة..